لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ؛ بعثه الله تعالى رحمة للعالمين ، وقدوة للعاملين ، وحجة على من أرسله إليهم أجمعين ، آتاه من البينات ما على مثله يؤمن البشر ، هدى به من الضلالة ، وبصر به من العمى ، وأرشد به من الغي ، وفتح الله به أعينًا عميًا ، وآذانًا صمًا ، وقلوبًا غلفًا ، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد : فمن خصائص هذا الشهر - أعني : شهر رمضان - أن الله تعالى خصه بخصائص :
- منها : أنه أنزل فيه أشرف وأعظم كتابٍ أنزله على أي رسول من الرسل ، ألا وهو القرآن ، كما قال الله تبارك وتعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) . [ البقرة : 185 ] . ونعم هذه الفضيلة لهذا الشهر الفضيل .
- ومنها : أنه الشهر الذي فيه ليلة القدر التي قال الله عنها : إنها مباركة ، وقال : إنها خير من ألف شهر ، فقال تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) . [ القدر : 1 - 2 ] . أي : أن شأنها عظيم ، وهذا الاستفهام للتفخيم والتعظيم كما قاله علماء اللغة . ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ . تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) . [ القدر : 3 - 4 ] . الملائكة : ملائكة الرب - عز وجل - ينزلون إلى الأرض ومعهم الروح الأمين وهو جبريل - عليه السلام - . ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ . سَلامٌ ) . [ القدر : 4 - 5 ] . أي : أنهم ينزلون بإذن الله ، لأنه لا أحد يعمل عملاً لا في السماوات ولا في الأرض إلا بإذن الله - عز وجل - وبمشيئة الله ، فإن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وربك هو الخلاق العليم : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) . [ القصص : 68 ] . فينـزلون وهي سلام إلى مطلع الفجر ، إذا طلع الفجر انتهت الليلة ، وقال الله تعالى في هذه الليلة : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ . فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) . [ الدخان : 3 - 4 ] . ( يُفْرَقُ ) : يفصل ويبين ؛ لأنه يكتب فيها ما يكون في تلك السنة ، ( كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) أي : كل شأن فيه حكمة ؛ لأن كلما يرتبه الله - عز وجل - وكلما يخلقه ويقدره فإنه حكمة ، لا تظن أن شيئًا يفعله الله إلا وله حكمة ، إن نزل الفقر بالعباد فلحكمة . إن نزل الغنى بالعباد فلحكمة . وإن أجدبت الأرض وقحطت السماء فلحكمة . وإن أخصبت الأرض وأمطرت السماء فلحكمة ، كل شيء يفعله الله فإنه لحكمة . ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) . [ الدخان : 4 ] . محكم متقن ، كل شيء في موضعه ( أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ . رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) . [ الدخان : 5 - 6 ] . ففي رمضان هذه الليلة المباركة .
- في رمضان تصفد مردة الشياطين ، الأشداء منهم ، أي : من الشياطين يصفدون ويغلون ، ولا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه من قبل ، ولهذا تجد المعاصي تقل جدًا من المؤمنين ، ويقبل المؤمنون على ربهم إقبالاً لا يجدون مثله في غير رمضان ، لماذا !؟ لأن الشياطين مردتهم تغل - توثق - لا يستطيعون الخلاص إلى ما كانوا يخلصون إليه من قبل .
- في رمضان خصائص منها ما سبق ومنها : أن صومه فرضٌ على جميع العباد ، بل ركن من أركان الإسلام ، لا يتم الإسلام إلا بصيام شهر رمضان . لو صام الإنسان أحد عشر شهرًا من السنة إلا رمضان هل يتم إسلامه !؟ لا يتم إسلامه ، لماذا !؟ لأن الله عين الصيام المفروض في رمضان ، وهذا من خصائص هذا الشهر .
- ومن خصائصه : أن من قام ليله إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، إيمانًا بالله عز وجل . إيمانًا بوعده وتصديقًا بخبره واحتسابًا لثوابه وأجره يغفر الله ما تقدم من ذنبه ، ولو قام الليل كله في غير رمضان لم ينل هذا الأجر ، بل من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه ، القيام كل الليل ، أو بعض الليل ، أو ماذا !؟ نقول : الأمر - والحمد لله - واسع ، قام النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة بأصحابه إلى نصف الليل ، قالوا : يا رسول الله ! لو نفلتنا بقية ليلتنا - أي : لو قمت فينا بقية الليلة ؛ لأنهم نشطاء على الخير - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) . الحمد لله ، لو كان قيام الإمام مقدار ساعة فقط من ليلٍ طوله اثني عشرة ساعة كتب للإنسان قيام ليلة كاملة ، ولهذا ينبغي لنا أن نحرص إذا قمنا مع إمام ألا نفارقه حتى ينصرف ، خلافًا لبعض العامة مساكين يضيعون أوقاتهم ولياليهم بغير فائدة ، يصلون مع هذا تسليمة أو تسليمتين ثم يذهبون إلى مسجدٍ آخر يصلون معه كذلك ، ثم مسجد ثالث ، وهذا خطأ ، إذا دخلت مع إمام في صلاة العشاء اثبت حتى ينصرف من التراويح من أجل أن يكتب لك قيام ليلة وأنت نائم على فراشك ، وأنت تلهو مع أهلك يكتب لك القيام ، ولله الحمد .
- ومن خصائصه - أيضًا - : أنه مع كون صومه فرضًا وركنًا من أركان الإسلام : ( من صامه إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه ) . كالقيام تمامًا ، يغفر له ما تقدم من ذنبه ، كلما تقدم يغفره الله ، ويستره عليه ، ويعفو عنه .
- ومن فرائض رمضان : أن الإنسان إذا صام . هل يصوم عن الأكل والشرب والنكاح فقط !؟ لا ، هذا عذاب ، والله لا يعذب أحدًا ، ولا يريد أن يعذبنا ، لكن إذا أمسكنا عن هذه الشهوات -الأكل والشرب والجماع - ابتغاء فضل الله فإنه يكون سببًا لتقوى الله ؛ لأن من اتقى الله تعالى بترك محبوباته كان تقواه فيما دون ذلك أولى ، ولهذا قال - عز وجل - : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) . [ البقرة : 183 ] . هذه الحكمة ، ليست حكمة الله - عز وجل - من الصيام أن يحرمنا الأكل والشرب والنكاح ، بل الحكمة أن نتقي الله ، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤكدًا ذلك : ( من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) . الله غني عنك ، عن أكلك وشربك وعبادتك وعن كل شيء . لا يحتاج الله إليك ، لكن من أجل التقوى فرض الله علينا الصيام . فرض الله علينا الصيام بأن نتقيه ، بأن نفعل ما أمر به ونترك ما نهى عنه خوفًا منه - عز وجل - .
الشيخ : محمد بن صالح العثيمين