أن هذا الشهر الكريم أصبح هماً لدى العقلاء من الناس لما يرونه من الجرئة الدائمة في التصرفات مع المولى سبحانه والتغير المبرمج في السلوكيات والتصرفات الفردية والجماعية فأنا مثلك أوافقك تماماً في هذا الهم ولكن في إطاره الصحيح والذي من المفترض أن لا نتجاوزه فننتقل بعد ذلك إلى القنوط واليأس من فضل الله ورحمته .
المشكلة في ظني وفي رأيي تكمن في البرمجة العقلية للسلوكيات الفردية والجماعية في التصرفات اليومية التي تنقلب رأساً على عقب بمجرد رؤية هلال هذا الشهر الكريم.
هذا التبرمج وهذا الانقلاب في السلوكيات حظي بالاعتراف والقبول المجتمعي على ما فيه من السوء والخطأ ولكنه للأسف أصبح وكأنه أمر عادي ولا غضاضة فيه . وهذه النظرة ما كان لها أن تتأتى لولا تواطئ المجتمع بجميع فئاته على الاعتراف به وتلقيه لها بالقبول والتسليم .
والذي يلفت النظر أن هذا الانقلاب يحدث لجميع فئات المجمع رجالاً ونساءاً آباءاً وأمهاتٍ صغاراً وكباراً لكل فئة طابعها الخاص في هذا التحول المفاجئ وهذا الانقلاب السلوكي الكبير والمصيبة أن المهتم الوحيد والمجمع على اتهامه بالوقوف خلف هذا التغير إنما هو ذلك الشهر الكريم.
لقد ارتبط شهر الخير عند الكثيرين من الناس بأنه مفتاح التغير السلوكي والاجتماعي السيئ للأسف الشديد ولذلك فالنصائح والكلمات والمحاضرات والإرشادات والتذكير والتوجيه ليس لها مردود إيجابي إلا من الناحية الفردية فقط وثمارها تبقى محدودة بالتزام الأفراد مع قلتهم بها . الأمر في نظري أعظم من ذلك بكثير لأننا لا نتعامل مع أفراد قلائل يمكن أن توجه إليهم مثل هذه الأساليب وتصبح ناجعة معهم ، وإنما نحن أمام معضلة أكبر من ذلك بكثير إنها مسألة مجتمع بأكمله يشكو المرض وسوء الأحوال لدى أفراده جميعهم ولذلك تبقى المسألة محصورة في كيفية انتشال هذا المجتمع المريض من هذه البراثين التي يغرق فيها وهذه الأوحال التي يخوض فيها وهذا الآلام التي يشكو منها وانتشاله إلى روضة الصحة والعافية وإلى طيب العيش والاستقامة وإلى شعاع النور والهدى وإلى الحيوية والنشاط والاستفادة من الطاقات المهدرة والأوقات الضائعة وإلى تغيير بوصلة التيه المجتمعي العام وتوجيهها إلى ما فيه الخير العميم والنفع الشامل والحياة المتحركة بكل ما يفيد وبكل ما يجعله موصلاً لتحقيق الخيرية لهذا الأمة ( كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس ) .
المسألة في نظري ليست من السهولة بمكان بأن تُحل وتُعالج لأنها تراكمات مجتمعية تطاولت مع الزمن حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن ولذلك فلا نتوقع أن العلاج يمكن أن يتم بين عشية وضحاها ونحن لا نملك عصاً سحرية تكفينا منها هزة واحدة لتنقلب معها حالنا وتنحل جميع مشاكلنا ، إنها في نظري ذات جوانب متعددة وفروع كثيرة تتشاكل فيها وتنصهر فيما بينها جميع المؤسسات الاجتماعية مع بعضها البعض وتتظافر كلها خطوة بخطوة في انتشال ذلك المرض المجتمعي السائد . فالأسرة ودورها في التنشأة وما يمكن أن يمارسه الوالدان في منزلهما ومع أبنائهما ، والمدرسة وما يفعله المعلمون مع تلاميذهم والمسجد وما يقوم به الإمام والمؤذن وجماعة المصلين مع بعضهم البعض والإعلام بأشكالها المتنوعة مع جمهورها ومؤسسات الضبط الأمني مع الأفراد الخارجين عن سلك الجماعة. كل هذه المؤسسات الاجتماعية يجب أن تعمل معاً بحيث لا يكون البعض منها يبني والآخر يهدم.
الأمر الآخر هو الالتفات بجدية للأفراد الناشئة في هذا المجتمع إذ هو يشكل أغلبية الأفراد في هذا المجتمع وهم الرقم الصعب الذي يستحق المراهنة عليه. الكبار قد تشكلت طباعهم والجهد معهم قد لا يؤتي من الثمار كما لو كان ذلك الجهد موجهاً ومبذولاً مع الصغار والناشئة.
لنعمق لديهم قيمة العمل والوقت ،لم لا يكون رمضان وسيلة يمكن استغلالها على تدريبهم على العمل واحترامهم للوقت وفتح الفرص أمامهم خاصة أثناء الليل وبعد التراويح. الملاحظ أن المناشط جميعها منصبة على الرياضة والرياضة فقط ولا شيء آخر حتى لدى الصالحين أنفسهم فالرياضة والمناشط الرياضية هي طابع برامجهم جميعها. إنني موقن أننا كمجتمع لواستطعنا أن نغرس في أبنائنا حب العمل حتى ولو كان ذلك بالأجر وبالساعة وفي أماكن عامة لأصبحت لدينا مفاهيم محترمة تنقل ذلك الشاب من مضيعة الوقت والتسكع في الشوارع إلى محلات البيع ودكاكين الأسواق . إن غرس حب العمل واحترامه والقائمين به يجب أن لا يكون مقصوراً على فئة معينة في المجتمع دون غيرها كالفئة المحتاجة مثلاً لا بل هي أمينة نتمنى أن تكون مغروسة عند الجميع ،والشاب يعمل حينئذ ليس لأنه محتاج إلى المال بل لأنه يريد أن يعمل ولا يكون كلاً على والديه يسألهما المال ليلاً ونهاراً فيصرفها بالباطل واللهو ثم ما يلبث أن ينتهي دوره بعد ذلك ليصبح جيفة هامدة يغط في سبات عميق في مأواه في نهار رمضان بعد أن أخذ اللهو واللعب من جسمه كل مأخذ.
إنها كما قلت هموم ما لبث قدوم هذا الشهر الكريم أن نبشها وقد كانت خامدة ليعطي لنا صورة واضحة من صور تخلفنا وذلتنا على الناس أجمعين ثم بعد ذلك نتساءل من أين لنا هذا الذي نحن فيه ؟